باسل: السجن بطولة وألم
بقلم/عبد الناصر عوني فروانة
عضو لجنة إدارة هيئة الأسرى والمحررين في قطاع غزة
20-8-2021
يوم أن اعتقل أبي -رحمة الله عليه- قبل خمسة عقود وما يزيد، كنت طفلاً صغيراً، ولم أكن قد تجاوزت الثالثة من عمري، فعرفت السجون الإسرائيلية وحفظت أسمائها، دون أن أعي معنى السجن، أو أدرك وجع المسجون. كنت أعتقد حينها أن السجن مرادف بطولة، خاصة وأنه ارتبط بمقاومة الاحتلال وكفاح الشعب الفلسطيني من أجل الحرية والاستقلال. ومع مرور السنين كبرتُ وكبرتْ بداخلي القضية، فتحولت أنا الآخر بدوري إلى أسير لأربع مرات، فعرفت أن للسجن معنى آخر. السجن مرادف الألم والوجع والحرمان.
من هنا يمكن القول: أن السجن ليس بطولة فحسب، والأسرى هم ليسوا مجرد أبطالاً ناضلوا وضحوا فقط، فالسجن ألم والأسرى هم أناس كباقي الناس. هم حياة ومشاعر وأحاسيس وأعمار تُقضى خلف القضبان، ولكل أسير من هؤلاء الكثير من القصص. وهذا “باسل” يدخل اليوم عامه العشرين على التوالي في سجون الاحتلال الإسرائيلي، فيضيف إلى قصته مزيدا من السطور وكلمات البطولة والوجع.
لم تكن تعلم الأم وهي حامل بجنينها، بأنها ستُنجب نجلها البكر ليقضي نصف عمره، ولربما أكثر من ذلك، وراء الشمس، خلف قضبان السجون. كما لم يكن لوالده أن يتوقع، ولا حتى في اسوأ الكوابيس، أن يكون لقائه بنجله عام 2000 هو الأخير بينهما، ولم يكن يتخيل “ابا باسل” أن ينتهي بهم الحال الى فراق طويل بدأ قبل واحد وعشرين سنة ولم ينتهِ بعد، بفعل السجن الإسرائيلي واجراءات الاحتلال ومنع زيارات الأهل بذريعة ما يُصطلح على تسميته بـ “المنع الأمني”، في ظل صمت وضعف وتراجع دور المؤسسات الدولية. فكم كانت صعبة لحظة الفراق تلك، وكم هو قاسي ومؤلم استمرار الحرمان من رؤية الحبيب والعزيز. فالفراق حزن كلهيب الشمس، وفراق الابن من أصعب حالات الفراق. فكان الله في عونك أخي وصديقي أبو باسل وأنت تتابع أخبار الأسرى المقلقة وظروف احتجازهم القاسية واستمرار الاهمال الطبي المتعمد في ظل الاستهتار الإسرائيلي المتصاعد بحياة الأسرى وأوضاعهم الصحية في زمن “كورونا”، دون أن يُسمح لك بزيارته ولو مرة واحدة طوال فترة سجنه الطويلة.
باسل عريف.. الفلسطيني ابن مدينة غزة، اسمٌ بات يعرفه الجميع، ويحفظه الأسرى والمحررون، ويذكره الناشطون والمتابعون لقضايا الأسرى، ويردده الشرفاء والمخلصون، فهو مناضل عنيد، حفر اسمه بأحرف من نور ونار على جدران الزنازين المعتمة، وكتب فصولاً من الصمود والتحدي خلال مسيرته النضالية، وشارك إخوانه الأسرى معارك الأمعاء الخاوية ومقاومة السجان بإرادة صلبة لم تلن، وعزم جبار لم يضعف، فحَفَر اسمه عميقاً في سجلات الحركة الوطنية الأسيرة.
ولد الأسير “باسل عريف” في الرابع من نيسان/ابريل عام 1982، وكان يقطن مع أسرته في حي الرمال غرب مدينة غزة، فكبر وترعرع وسط عائلة مناضلة وبين أزقة وشوارع المدينة، وانتمى لحركة “فتح” منذ نعومة أظافره، وفي عام 1998 التحق بجهاز الشرطة الفلسطينية وتلقى دورة تدريبية ومن ثم انتقل الى العمل في محافظات الضفة الغربية، ومع اندلاع انتفاضة الأقصى عام2000، انضم إلى كتائب شهداء الأقصى الذراع العسكري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني”فتح”، ولكل امرئ من اسمه نصيب، فكان بطلاً باسلاً، شجاعاً، قاتل عدوه بشدة، وقاوم المحتل ببسالة ولم يأبه الموت، فسطّر صفحات من المجد والبطولة وشارك في العديد من العمليات الفدائية، ولعل أبرزها المشاركة في قتل مستوطنين إسرائيليين داخل مستوطنة “عوفر” انتقاماً لاستشهاد صديقه ورفيق دربه “مهند حلاوة”.
وفي التاسع عشر من آب/أغسطس عام 2002 وبعد مطاردة استمرت لشهور طويلة، تمكنت قوات الاحتلال الإسرائيلي من استدراجه عبر أحد العملاء واعتقاله والزج به في سجونها، فتعرض لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي رغم الإصابة التي كان يعاني منها في يده اليمنى، وبعد ثلاث سنوات من التوقيف والاستجواب والعديد من جلسات المحاكمة، أصدرت محكمة عوفر الإسرائيلية العسكرية حكماً بحقه بالسجن المؤبد (مدى الحياة) مرتين إضافة إلى 52 عاما.
ومنذ اعتقاله قبل تسعة عشر سنة تنقل في عدة سجون إسرائيلية وقضى سنوات متفاوتة في عسقلان وبئر السبع وهداريم وايشل ونفحة، ومكث فترات طويلة في زنازين العزل الانفرادي، وحصل على شهادة الثانوية العامة وشهادة البكالوريوس في العلوم السياسية داخل سجنه، فيما يقبع الآن في سجن نفحه في صحراء النقب جنوب فلسطين المحتلة.
وتمر الأيام والشهور وتمضي معها السنين، وتُقضى الأعمار خلف قضبان السجون وتحل الذكرى التاسعة عشر لاعتقال “باسل عريف” ليدخل عامه العشرين بشكل متواصل ويقترب من الانضمام إلى قائمة “عمداء الأسرى”، والألم يزداد والوجع يتفاقم، ومعاناة باسل وأسرته تتسع، ولسان حالهم يقول: رفقاً بنا أيها السجن اللعين، فألا يكفي ما ألحقته بنا من ألم وقهر وحزن جراء ما تفرضه علينا وعلى أبنائنا من قيود، فو الله ما عاد في الروح متسع، وما عاد بمقدورنا تحمل مزيداً من الوجع. ولعل ما يخفف من وجعنا هو ذاك الأمل الذي يتعاظم يوما بعد يوم باقتراب اتمام صفقة تبادل جديدة وانتصار يكسر قيد المؤبدات، وتنجح من خلاله المقاومة الفلسطينية في اطلاق سراح رموز المقاومة. ويقُولون مَتى هُو. قُل عَسى أن يَكون قَريبًا.
ويبقى الأخ باسل عريف، الأسير والمناضل .. منتصب القامة يمشي ولم يَنحنِ، ورأسٌ شامخٌ لم يطأطئ، وعنفوانٌ كبيرٌ لم ينكسر، ومناضل يتسلح بأمل الانتصار وكسر القيود